اطفال محتجزون أربعة و أربعون ساعة في الاسبوع
لقد فرح الجميع في العائلة بنجاحي في ذلك الأِمتحان السنة السادسة, لم تكن الفرحة, فرحة ذلك الطفل في الامتحان فحسب من باب التمدرس ولكن رأى نفسه قد تخطّى حاجز كبير و لكن كان يبدو لي كبُرت في السنّ و قد ودّعت طفولتي نوعا ما.
و لم تكتمل الفرحة التي غمُرت كلّ افراد العائلة حتى انقلب كل شيء الى حزنٍ عميق قد أعجزعن وصفه الأن رغم انني وقتها لم افهم مغزاه و لا سببه. و بعدئدٍ تبين لي أنني لم اكن لألتحق بتلك الثانوية التي تابعت بنائها و حضرت تدشينها و كنت ارى تفسي فيها و طالما حلمت بها. ثانوية عبد المُؤمن. و ها أنذا اجد نفسي قد عُينت في ما كان معروف لدينا أنذاك بالمركز التعليم التقني. وهذا المركز كان مخصّص في الأول للراسبين في الامتحان السنة الاولى متوسط بهدف التكوين المهني و خصص لاحقا لنزلاء مركز اعادة التربية اي السجن لاعادة ادماجهم من جديد في المجتمع كما كان يقال. هُنا كانت صدمة جميع العائلة. و خاصة الأُم الكريمة.
الحزن ولد ثوران بعد ذلك وراحت أُمّي كعادتها مقتنية حائكها (ملاءتها) وراقفتني الى ذلك المركز اللعين كي ترى مالذي جرى حتى يوجه ابنها الى مركز للسجناء ليس الا. و استقبلها الحارس العام الذي كان يسمى زيّان. فكانت تفسيراته غير مقنعة لها على نحو ان بالعكس على ضنِّها فان المتوفقين في مادة الحساب هم الذين اُختيروا لكي يواصلون نوع جديد من التعليم قُرر و يسمى التعليم التقني. و لم يكن ذلك ليُقنعُها. فاخرجها من المكتب ليُريها الثانوية التي كانت في طور البناء محاذية لذلك المركز المزعوم.وحقيقة كانت هناك ورشة بناء والاشغال جارية بها وبادية على وشك الانتهاء. . ولكن الأم لم تقتنع رغم كل شروحات التي قدمت على اساس أن هذا تكريم لابنها و ليس انقاص من قيمته. و برهان ذلك هو وجود اطفال عائلات معروفة بميسورات الحال في المدينة في نفس المركز. و عند ما لاحظ علامات التعجب فراح في سرد اسماء العائلات التي كانت تُعرف انذاك في المدينة كي يقنعها بان ذالك لم يكن ليُنقص من قيمة ابنها. وللعلم في مدينتنا لم تكن تلك العائلات الميسورة الحال سوى بقال او بائع اثاث او صاحب مقهى او حمام عمومي كانت محلاتهم تتوسط المدينة او بعض موضفين يعملون في الادارة. و حت تجار المدينة لم يكن لهم ارقام اعمال كبيرة حتى يصنّفوا من كبار اثرياء المدينة. فمدينتنا كانت مدينة صغيرة غير مزدهرة اقتصادياً. كان هناك كبار ملاك اراضي و اغنام و صحيح, لكن بساطة معيشتهم لم تكن لتخلق طبقة اغنياء تأثِر في المجتمع. ولكن الفقر المدقع لسواد سكان المدينة كان كافيا ليميز هؤلاء على الباقي.
هذا لم يكن ليرى اهتزاز في معتقدات الاُم وتأثُر بهذه المقارنات. فان كانت هذه العائلات الميسورة قد رضت بذلك فهي لم تكن لترضى لابنها تعليما تقنيا الذي كان مرادفا في ذهنها للاشغال اليدوية البحتة هذا من جهة ومن جهة اخرى كان هذا المركز او ما كان قد يصبح ثانوية فيما بعد يبعد بكثير عن مقر سكنانا.. بحيث اجابته على الفور بان اذا كان هؤلاء رضو لابنائهم هذا النوع من التعليم فهي لاتريد ذلك لابنها . امي كانت من النوع ذو شخصية خارقة للعادة. رغم انها منحدرة من عائلة بدوية او لانها كذلك فلم تكن تتاثر بالمفارقات المجتمعية. فذهل الحارس العام من الجواب مخمناً في نفسه كيف لتلك المرأة التي لا يظهر عليها لا علامة الثقافة ولا علامة الثراء تنفرد بهذه الاستقلالية في الفكر و العناد. فذهل و لم يكن له بذ في جواب اخريُقنعها. و بعد ذلك و كعادتها ظلت اياماً و اياماً تطرق كل الابواب و لم تفلح في سحبي من ذلك المركز. ووافتها المنية سنتين من بعد و وذهبت بهاجسها الذي لم يكن ليُفارقها اللحظة... و فقدانها اخذ معها كل طعم للحياة. كانت امي كل شئ بالنسبة لي... كنت لاازل انام في حضنها لا أُبالي بسخرية الاهل و الاقارب. و اذا كان العطف و الحنان تهبُه اي ام لطفلها كغريزة انسانية فقد ورثت من أُمّي استقلالية التفكير والنقد الحاد للذات قبل نقد الاخرين و انا ما زلت طفلاُ. فكانت بالذات هي ميزتها عُرفت بها احبوها الناس بها او نبذ وها من اجلها. كانت تخيط ليل نهارعلى مكنتها. كانت تخيط لباس النساء العادي و البدوي و حتى فساتين الفرنسية آخر مودة لبناتها اللاتي كُنّ يرينها اياها من المجلات المودة التي كانت رائجة وقتها بحيث لم تكن لا تعرف لا القراءة و لا الكتابة رغم انها في اخر ايامها عمدت في سنها المتقدم لتعلم ذلك. تلك لمحة موجزة عن الام اردت تحية ذكراها بها.
و هكذا قلة حيلتها و حيلة كل العائلة و قصر ذراعها ارغمني المكوث قي ذلك التعليم التقني كفِأران تجارب و حينما انتقلنا الى السنة الولى ثانوي اعادونا مرة ثانية للتعليم العام و كأن شيئ لم يكن. اربعة سنوات من عمر اطفال اهدروها عبثا. كيف سمح لهم ضميرهم ان يحبسوننا اربعة و اربعون ساعة في الاسبوع تحت وطأة احدى عشرة استاذا و ثلاثة عشرة مادة و في الاخير كأنه شيئ لم يكن. هل هذا يعقل ؟ و هذا لم يكن ليلين قلب الاساتذة ولا الحارس العام و لاالحراس كي يجنبوننا العقوبات المهينة و القاسية و لاحتى المدير يأمر باسغلالنا في حفرالحفرات ونصب اعمدة سياج الثانوية التي كانت لم تكتمل بعد. كيف لايحز في قلبهم حجزنا اربعة ساعا ت متتالية لدرس الرسم الصناعي, اللهم الا ربع ساعة الاستراحة التي كناّ نتريص فيها حرارة اشعة الشمس, في تلك الورشة (hangar ) في ذلك البرد الجليدي بدون تدفئة و بدون رحمة و لاشفقة.و كان الرسم بقلم الرصاص على الورق المقوى بحيث كنا اذا اخطأنا اعدنا الرسم كله و من اوله, تحت عقاب الاستاذ بنويس الذي لشدته لقبوه التلامبذ ب " المحبوس" و كان الاحرى استعمال اقلام الميداد و الورق الشفاف لتخفيف من وطأة العناء. كيف كان ذلك استاذ العلوم من الشرق البلاد تحت الخدمة العسكرية يصفعنا بتلك القوة البالغة على الخدين واحد تلوى الاخر كعقاب جماعي لخطأ مزمع ارتكبه الواحد منا. كنا نمكث على مقاعد الدراسة من الساعة الثامنة صباحاً الى الساعة السادسة مساءاً يتخللها ساعتين للغذاء كانت بالكاد تكفي لاخذ تلك الوجبة لان الثانوية كانت على اطراف المدينة و لم يكن حينها اي وسيلة النقل. و من العقوبات التى كانت تبكينا دماً ان نرغم ان نأتي يوم الاحد الذي هو يوم عطلة و نمكث في الثانوية تحت حراسة حارس اليوم كله او نصفه. و عندما ابتكروا فكرة تقديم ااوقت بساعتين كاملتين بالنسبة لوقت غرينيتش فكنا نستيقظ على الخامسة صباحاً.
هل يعقل هذا....؟ و في الاخير نُوجّه للتعليم العام كباقي تلاميذ المدينة.
لهذا لم احتفظ بذكريات مع الاساتذة لأنه مرعلينا العشرات و العشرات منهم. فرنسيون من الاقدام السوداء, سوريون, عراقيون عرباً و أكراد, فلسطنيون, واخيراُ جزائريون من المدينة و من انحاء الوطن و منهم من كان يؤدي قي الخدمة العسكرية. و المواد كانت تتغير من سنة الى أخرى فهناك الميكانك و الكهرباء و النجارة و التكنلوجيا و الرسم الصناعي و الفزياء, دروس نظرية و تطبيقات في الاوراش و سائر مواد التعليم العام.
Top of Form